:يقول
على زوايا تاريخي المنسي , تترامى خيوط نور ٍ شاحب ٍ عليل , يوقظ في
ذاكرتي التي نضب معينها تلك الشعلة الأليمة , التي ذهبت بطموحي ,
وأضاعت كل ّ أمل ٍفي مكان راحتي و سعادتي . تتجدّد في حديقة ِ شقائي
ظهورُ النّبتات الصّغيرة التي قضت عليها عاصفة ُإخفاقي في نيل ما كنت
أريد . وبدأت ْ قطعُ الضّباب المخيفة التي تلاشت من وادي ذكرياتي تعود
إلى الازدحام و التّراكم , فتسد ّ أمام آمالي المنافذ , تخترق ُ كتلها
السوداء ُ حتّى جبهتي فتصل إلى شرايين دماغي تفصل أحدها عن الآخر ,
تتركها كجيش ٍ منهزم ٍ فقد كل ّ ثقة ٍ بإمكانية النّصر , تبعثر أفرادُه
مشتتين حيارى .
لكم أشقاني هذا الماضي، و أحاط نفسي بأسرار المآىسي الشّاهقة التي يصعب
حتى على الطّائرتخطّيها بجناحيه، و كم دفعتُ ثمن هذا الماضي من صحّتي و
قوّتي و مكانتي دون فائدة تذكرسوى الآلام التي وجدت لها في هيكلي
المتداعي وطناً أميناً تأبى النّزوح عنه،و استمرّ الزّمنُ المجرم في
تضييق الخناق عليّ ضمن دائرة التّعاسة النّهمى ، التي وجدت لذّتها
الكبرى في امتصاص ما تبقّى بجسدي الهزيل من قطرات دماء تمنع دقّات قلبي
عن الوقوف و إلى حين فقط)
***
:وفي موضع آخر يقول شاكيـاً
غضبة القدر مابرحتْ تلازمني أنّى توجّهتُ، كأنّي خلقتُ و إيّاها في
يومٍ كتب لنا فيه الاتّحادُ الأبديّ أين المفرُّ و أين المسيرُ و جندها
العاتية تضربُ من حوليَ حلقةً تضيقُ عليّ ساعةً بعدَ ساعة،تهزُّ
بأيديها المواضي مكشّرةً عن أنياب ذئاب، و كلٌّ يطلبُ السّبقَ كي يظفرَ
بالفريسةِ قبلَ غيره و أنا أحسُّ بأنفاسي تتسلّلُ من بين ضلوعي،تسلّلَ
الّلصّ في غياهبِ الظّلمات، لتتبخّرَ في أجواءِ الرّهبة و الخوف فتوهن
قواي الصّلبة، و أرتمي على فراش ِ الألم الذي ضمّني بينَ أحضانه، ضمّةَ
الباشق للحمامة. جفَّ عوديَ الرّطْبُ ، و تبدّلت ابتسامتي
المعهودة،بمسحةٍ من الكآبة المرّة ، و إن ابتسمتُ مرّةً، فللمجاملةِ
التي يفرضها عليَّ وضعي و أحوالي .
عجبتُ لزمانيَ الشّرس، كيف يشهرُ السّيفَ بوجه رجلٍ مسالمٍ، ما سوّدتْ
صفحاتِ ماضيه المنكراتُ أو الجرائمُ، و عجبتُ لحكم القدر، كيفَ يسلّطُ
عليّ سيفَ نقمتهِ ، و ما أنا بالّلص أو المخادع.
يؤلمني أن أرى الطمأنينة تنشرُ ظلالها فوقَ السّارقِ الآثم ،و تجلببُ
هاتِكَ الأعراضِ الدّنس بجلبابِ الفضيلة و العفاف ،و القلبُ النقيّ
الطاهرُ يُطعنُ بمديةِ العارِ و الرّذيلة. ويلٌ لهذا المجتمع ،كيفَ لا
تنقلبُ الجبالُ على من فيه، و لا أعلمُ لما تعتصمُ البحارُ بمائها ،ولا
تطغى على العالم و ساكنيه،و لكن ما كلُّ ما يتمنّى المرءُ يدركُهُ.
إنّنا نسيرُ مرغمينَ في ركابِ هذه القافلةِ التّافهة، و التي ما وجدت
لها حتى الآن شاطئاً، لتلقي َمراسيها و ستظلُّ آلامُنا حيّةً و
أفكارُنا حائرة إلى أن تتبدّلَ هذه الفصولُ و تتغيّرَ هذه المسرحيّةُ
المضحكة.
***
:و في مكانٍ آخر يقول
إذا أمعنت النظر في أطراف صحراء هذا العالم المجهول , رأيت شبح خيال
ٍ مضطربٍ يتنقـّل فوق رمالها المحترقة ,لا يعرف لوضعه استقراراً ,و لا
لحياته برنامجـاً . وكلما لاحت له في آفاقه البعيدة بارقة أملٍ و حث ّ
خطاه الكليلة في طلب الوصول إليها تلاشت من أمامه و ذابت كما يذوب
الثلج .
تضيق بروحي المعذبة رحاب هذا الكون الغامض و تسود ّ دنياي ظلمة ً داجية
ً و ليل عمري العابس ما رأيت صباحه ينبلج و لا حالكه يُـنـار. سارَ
بيَ الزّمنُ الخؤونُ شوطاً بعيداً في طرقِ اضطهاده و تعذيبهِ
إيّايّ، سجنني منذُ خُلقتُ في حجرةٍ ضيّقةٍ دامسةٍ هرباً من أنيني بعد
أن ذبح من أوكل َ إليه حراستي، إذ كانَ يخافُ الرأفةَ أن تدبَّ في قلبِ
ذلك السّجان، و يعمل على إنقاذي . ثلاثون عاماً قضيتها في محبسي هذا ،
أبحَّ حنجرتي صراخُ الاستغاثةِ الضائعُ في وحدتي المجهولة، و أنهكت
قواي محاولاتُ الإفلاتِ منه دونَ جدوى.
ألا تبّاً لزمانٍ ما ذقتُ فيه إلاّ الحرقةَ و التّأوّهَ، و لا ظفرتُ
منه إلاّ بالحيرةِ الدّائمة و الخذلانِ المريرِ. قد تتساءلُ عمّا
يبكيني و يجرحني ، فأقولُ لك إنّها عواملُ متعدّدةٌ ،لا أدري من أينَ
هبطت ،أواقعٌ يصوّرها أمامي مجسّمةً ضخمةً، أم أنّها خيالاتٌ وهميّةٌ
ترسمها على شاشتي هواجسي و بلبلتي .
إنّها على الحالتين أوجاعٌ أحسُّ بها ، كما تحسُّ النّعجةُ بسكّينِ
ذابحها، و لا فرقَ عندي بينَ واقعها أو تخيّلها. إنّني أرقبُ على
الحالتين انفراجَ أزمتي كما يرقبُ الأسيرُ الإفلاتَ من قيدهِ و الغريقُ
انتشالَهُ.
***