لم يكن نظير بطيخ الشاعر الزجلي ماهـرا ً و رشيقا ً في كتابة الزجل و البغدادي فحسب , بل برع في النثر كذلك وهذه نماذج بسيطة نوردها لعلـّها توضح قليلا ً من شفافية هذا الشاعر وإحساسه المرهف و تمكّنه من اللغة الفصحى .

:يقول
على زوايا تاريخي المنسي , تترامى خيوط نور ٍ شاحب ٍ عليل , يوقظ في ذاكرتي التي نضب معينها تلك الشعلة الأليمة , التي ذهبت بطموحي , وأضاعت كل ّ أمل ٍفي مكان راحتي و سعادتي . تتجدّد في حديقة ِ شقائي ظهورُ النّبتات الصّغيرة التي قضت عليها عاصفة ُإخفاقي في نيل ما كنت أريد . وبدأت ْ قطعُ الضّباب المخيفة التي تلاشت من وادي ذكرياتي تعود إلى الازدحام و التّراكم , فتسد ّ أمام آمالي المنافذ , تخترق ُ كتلها السوداء ُ حتّى جبهتي فتصل إلى شرايين دماغي تفصل أحدها عن الآخر , تتركها كجيش ٍ منهزم ٍ فقد كل ّ ثقة ٍ بإمكانية النّصر , تبعثر أفرادُه مشتتين حيارى .
لكم أشقاني هذا الماضي، و أحاط نفسي بأسرار المآىسي الشّاهقة التي يصعب حتى على الطّائرتخطّيها بجناحيه، و كم دفعتُ ثمن هذا الماضي من صحّتي و قوّتي و مكانتي دون فائدة تذكرسوى الآلام التي وجدت لها في هيكلي المتداعي وطناً أميناً تأبى النّزوح عنه،و استمرّ الزّمنُ المجرم في تضييق الخناق عليّ ضمن دائرة التّعاسة النّهمى ، التي وجدت لذّتها الكبرى في امتصاص ما تبقّى بجسدي الهزيل من قطرات دماء تمنع دقّات قلبي عن الوقوف و إلى حين فقط)

***

:وفي موضع آخر يقول شاكيـاً
غضبة القدر مابرحتْ تلازمني أنّى توجّهتُ، كأنّي خلقتُ و إيّاها في يومٍ كتب لنا فيه الاتّحادُ الأبديّ أين المفرُّ و أين المسيرُ و جندها العاتية تضربُ من حوليَ حلقةً تضيقُ عليّ ساعةً بعدَ ساعة،تهزُّ بأيديها المواضي مكشّرةً عن أنياب ذئاب، و كلٌّ يطلبُ السّبقَ كي يظفرَ بالفريسةِ قبلَ غيره و أنا أحسُّ بأنفاسي تتسلّلُ من بين ضلوعي،تسلّلَ الّلصّ في غياهبِ الظّلمات، لتتبخّرَ في أجواءِ الرّهبة و الخوف فتوهن قواي الصّلبة، و أرتمي على فراش ِ الألم الذي ضمّني بينَ أحضانه، ضمّةَ الباشق للحمامة. جفَّ عوديَ الرّطْبُ ، و تبدّلت ابتسامتي المعهودة،بمسحةٍ من الكآبة المرّة ، و إن ابتسمتُ مرّةً، فللمجاملةِ التي يفرضها عليَّ وضعي و أحوالي .
عجبتُ لزمانيَ الشّرس، كيف يشهرُ السّيفَ بوجه رجلٍ مسالمٍ، ما سوّدتْ صفحاتِ ماضيه المنكراتُ أو الجرائمُ، و عجبتُ لحكم القدر، كيفَ يسلّطُ عليّ سيفَ نقمتهِ ، و ما أنا بالّلص أو المخادع.
يؤلمني أن أرى الطمأنينة تنشرُ ظلالها فوقَ السّارقِ الآثم ،و تجلببُ هاتِكَ الأعراضِ الدّنس بجلبابِ الفضيلة و العفاف ،و القلبُ النقيّ الطاهرُ يُطعنُ بمديةِ العارِ و الرّذيلة. ويلٌ لهذا المجتمع ،كيفَ لا تنقلبُ الجبالُ على من فيه، و لا أعلمُ لما تعتصمُ البحارُ بمائها ،ولا تطغى على العالم و ساكنيه،و لكن ما كلُّ ما يتمنّى المرءُ يدركُهُ.
إنّنا نسيرُ مرغمينَ في ركابِ هذه القافلةِ التّافهة، و التي ما وجدت لها حتى الآن شاطئاً، لتلقي َمراسيها و ستظلُّ آلامُنا حيّةً و أفكارُنا حائرة إلى أن تتبدّلَ هذه الفصولُ و تتغيّرَ هذه المسرحيّةُ المضحكة.


***

:و في مكانٍ آخر يقول
إذا أمعنت النظر في أطراف صحراء هذا العالم المجهول , رأيت شبح خيال ٍ مضطربٍ يتنقـّل فوق رمالها المحترقة ,لا يعرف لوضعه استقراراً ,و لا لحياته برنامجـاً . وكلما لاحت له في آفاقه البعيدة بارقة أملٍ و حث ّ خطاه الكليلة في طلب الوصول إليها تلاشت من أمامه و ذابت كما يذوب الثلج .
تضيق بروحي المعذبة رحاب هذا الكون الغامض و تسود ّ دنياي ظلمة ً داجية ً و ليل عمري العابس ما رأيت صباحه ينبلج و لا حالكه يُـنـار. سارَ بيَ الزّمنُ الخؤونُ شوطاً بعيداً في طرقِ اضطهاده و تعذيبهِ إيّايّ، سجنني منذُ خُلقتُ في حجرةٍ ضيّقةٍ دامسةٍ هرباً من أنيني بعد أن ذبح من أوكل َ إليه حراستي، إذ كانَ يخافُ الرأفةَ أن تدبَّ في قلبِ ذلك السّجان، و يعمل على إنقاذي . ثلاثون عاماً قضيتها في محبسي هذا ، أبحَّ حنجرتي صراخُ الاستغاثةِ الضائعُ في وحدتي المجهولة، و أنهكت قواي محاولاتُ الإفلاتِ منه دونَ جدوى.
ألا تبّاً لزمانٍ ما ذقتُ فيه إلاّ الحرقةَ و التّأوّهَ، و لا ظفرتُ منه إلاّ بالحيرةِ الدّائمة و الخذلانِ المريرِ. قد تتساءلُ عمّا يبكيني و يجرحني ، فأقولُ لك إنّها عواملُ متعدّدةٌ ،لا أدري من أينَ هبطت ،أواقعٌ يصوّرها أمامي مجسّمةً ضخمةً، أم أنّها خيالاتٌ وهميّةٌ ترسمها على شاشتي هواجسي و بلبلتي .
إنّها على الحالتين أوجاعٌ أحسُّ بها ، كما تحسُّ النّعجةُ بسكّينِ ذابحها، و لا فرقَ عندي بينَ واقعها أو تخيّلها. إنّني أرقبُ على الحالتين انفراجَ أزمتي كما يرقبُ الأسيرُ الإفلاتَ من قيدهِ و الغريقُ انتشالَهُ.


***